في انتهاك سافر وخطير لكل المواثيق والأعراف الدولية، أقدم الكيان الإسرائيلي المحتل على محاولة اغتيال مُخزية وفاشلة لفريق التفاوض السياسي التابع لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في عاصمة السلام، الدوحة، وذلك أثناء اجتماعهم لمناقشة الاقتراح المقدم من الرئيس الأميركي ترامب، والخاص بوقف إطلاق النار في غزة المنكوبة.
هذا الاعتداء الإسرائيلي الغاشم، والذي تخطّى كل الحدود المنطقية والقانونية والدبلوماسية المتعارف عليها، قوبل بإدانة دولية واسعة النطاق واستياء شديد على مستوى العالم، لما يمثله من سابقة خطيرة وغير مسبوقة، وانتهاك صارخ لسيادة دولة ذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ومجلس التعاون الخليجي، علاوة على أنها ليست على تماس جغرافي مباشر مع إسرائيل، ولا تربطها بها أي حالة حرب أو نزاع مسلح.
فضلاً عن أن دولة قطر الشقيقة تعتبر من أهم وأبرز اللاعبين الدوليين في مجال تسوية النزاعات الدولية المعقدة والمستعصية، وقد جسّدت في سياساتها الحكيمة رمزاً للسلام والتعايش السلمي بين الشعوب، ومحضناً للعديد من الأنشطة الدولية التي سعت جاهدة لمد جسور التعاون الثقافي والاقتصادي المثمر بين مختلف الأمم والشعوب.
لماذا حماس في قطر؟
إن مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، الذي يقود عصابة إجرامية من اليمين الصهيوني المتطرف، كان يهدف من وراء محاولة اغتيال القيادات السياسية لحركة حماس في الدوحة، إلى تحقيق جملة من الأهداف الخبيثة، يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولاً: إفشال وتقويض العملية التفاوضية برمتها، من أجل استكمال جريمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية المروعة في غزة الصامدة:
إذ يعتقد نتنياهو واليمين الصهيوني اللاهوتي المتعصب، أن المفاوضات الجارية تشكل عائقاً حقيقياً وتهديداً مباشراً أمام استكمال مخططاتهم الشيطانية لاحتلال قطاع غزة بالكامل، وتهجير الشعب الفلسطيني الأعزل منه قسراً وعنوة، وذلك بقوة القصف والتدمير الممنهج وارتكاب المجازر الوحشية.
ومما أثار هذه المخاوف العميقة لدى نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، أن حركة حماس وافقت في وقت سابق على الاقتراح الذي قدمه المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف في الثامن عشر من شهر أغسطس/آب الماضي، دون أي تعديل أو تحفظ، الأمر الذي وضعه في موقف حرج للغاية، ومارس عليه ضغطاً كبيراً أمام الرأي العام الدولي، والرأي العام الإسرائيلي على حد سواء، حيث اتهمه الجميع بالتعنت الشديد وتضييع فرصة ذهبية لإطلاق سراح الأسرى، ووقف الحرب المدمرة على غزة.
وفي هذا السياق، يبدو جلياً أن نتنياهو كان يخشى من أن توافق حركة حماس مجدداً على المقترحات التي يطرحها الرئيس الأميركي، ممّا دفعه إلى مسابقة الزمن والقيام بهذا الاعتداء السافر والمباشر على فريق حركة حماس المفاوِض بقيادة الدكتور خليل الحية، وذلك بهدف قطع الطريق نهائياً أمام التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، والإبقاء على فرضية الحرب على غزة هي الخيار الوحيد المسيطر على المشهد، لتحقيق أهدافه السياسية اللاهوتية الخبيثة في أرض إسرائيل المزعومة.
ثانيا: استبعاد قطر من الوساطة والمفاوضات
كما يعتقد نتنياهو أيضاً أن دولة قطر تلعب دوراً محورياً وهاماً في تفعيل العملية التفاوضية، والسعي الحثيث لإنجاحها؛ وذلك انطلاقاً من حرصها الشديد على تجنيب الشعب الفلسطيني المزيد من الكوارث والمآسي التي يتعرض لها في قطاع غزة المحاصر.
وما يُميز دولة قطر هو خبرتها الطويلة والمتراكمة في التعامل مع الملفات السياسية المعقدة والشائكة، وقد حققت نجاحات باهرة حيثما فشل الآخرون في الوساطات الدولية، وذلك بفضل علاقاتها المتوازنة مع كافة الدول والأطراف المعنية، ومع الولايات المتحدة الأميركية التي تنظر إلى قطر كحليف إستراتيجي وثيق الأهمية في المنطقة.
وهذا في حد ذاته شكل تحدياً كبيراً لنتنياهو ولليمين الصهيوني المتطرف بأكمله، إذ لطالما هاجموا دولة قطر بضراوة، واتهموها بدعم حركة حماس، وعدم ممارسة الضغوط اللازمة عليها، وذلك في محاولة يائسة لثنيها عن دورها المحوري في الوساطة، من أجل استكمال مخططات الإبادة والتهجير القسري في غزة.
ثالثا: سعي نتنياهو لتحقيق النصر المطلق الذي يحلم به منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023
فالاغتيال المفترض لقيادة حركة حماس السياسية في دولة قطر، بعد اغتيال قيادات وازنة ومؤثرة من الحركة، كرئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في طهران، ومن ثم يحيى السنوار في غزة، وقبلهما الشيخ صالح العاروري في بيروت، وقيادات عسكرية كبيرة من المجلس العسكري لكتائب القسام، ربما كان سيشكل لنتنياهو نصراً سياسياً أمنياً كبيراً على طريق القضاء التام على حركة حماس.
ولو تم له ذلك بالفعل، لكان من السهولة بمكان على نتنياهو تسويق الأمر أمام النخبة الإسرائيلية والإدارة الأميركية على حد سواء؛ بأنه قد اقترب كثيراً من إنهاء ملف حركة حماس في الضفة والقطاع والخارج، ممّا قد يشكل له فرصة سانحة لاستكمال تجريف قطاع غزة وتهجير الشعب الفلسطيني من هناك بشكل كامل، وذلك بغطاء أميركي كامل لإقامة ترامب ريفييرا ومشاريع اقتصادية كبرى، والتي نوقشت في البيت الأبيض بحضور رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، وصهر الرئيس ترامب جاريد كوشنر في السابع والعشرين من شهر أغسطس/آب الماضي في العاصمة الأميركية واشنطن.
وبناءً عليه؛ ليس من المستبعد على الإطلاق أن تقوم إسرائيل ومجرم الحرب نتنياهو، بتكرار سيناريو الاغتيال الغادر في قطر مجدداً، وفي مصر، وتركيا أيضاً للذريعة نفسها، حيث تزورها قيادات حركة حماس لأسباب سياسية متعددة.
رابعاً: تحقيق الهيمنة الشاملة وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يتناسب مع المعايير الإسرائيلية:
إن استخدام الاحتلال الإسرائيلي للطيران الحربي في عملية الاغتيال الفاشلة التي وقعت في وضح النهار، وفي قلب العاصمة القطرية الدوحة، وعدم اللجوء إلى عمليات اغتيال أمنية سرية، يعد بمثابة رسالة واضحة المعالم وموجهة إلى دولة قطر وإلى جميع الدول العربية قاطبة، وهذا ما أشار إليه رئيس الكنيست الإسرائيلي المدعو عامير أوهانا من حزب الليكود الذي يقوده مجرم الحرب نتنياهو، بعد ساعات قليلة من العدوان السافر على السيادة القطرية، حيث أكد أن العملية هي "رسالة إلى الشرق الأوسط برمته".
فإسرائيل أرادت أن تقول بوضوح؛ إن يدها مطلقة وحرة في المنطقة بأسرها، وأنها ستستهدف أي دولة مهما بعدت جغرافيا، وأنه "لا حصانة لأحد" على الإطلاق، كما صرح بذلك بنيامين نتنياهو عقب عملية الاغتيال الفاشلة.
هذا السلوك العدواني، في العقل الصهيوني المتطرف، يخدم ويتقاطع بشكل كامل مع فكرة توسع إسرائيل جغرافيا في الإقليم، ومع قول بنيامين نتنياهو قبل عدة أسابيع إنه في "مهمة روحية وتاريخية من أجل إسرائيل الكبرى"، الأمر الذي نتابع إرهاصاته وتجلياته الواضحة في سوريا، ولبنان حيث يتموضع جنود وقوات الاحتلال الإسرائيلية.
فإقامة إسرائيل الكبرى وتمدد الاحتلال في المنطقة، يحتاجان بالضرورة إلى استعادة زمام المبادرة وترميم نظرية الردع الإسرائيلية الزائفة التي تحطمت وانهارت بشكل كامل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي (معركة طوفان الأقصى).
وما استهداف قطر، وسوريا، ولبنان، واليمن، وإيران إلا محطات متفرقة في سياق التمهيد لما هو أعظم وأخطر، إن بقيت الدول العربية تراوح مكانها في مربع الإدانة والاستنكار الباهت دون اتخاذ إجراءات عملية رادعة لإرهاب إسرائيل ورعونتها، وجنوح بنيامن نتنياهو واليمين المتطرف الذي يقود هذا الكيان المارق بغطاء أميركي سياسي واقتصادي وعسكري كامل.
حتى لا نقول؛ أكلت يوم أكل الثور الأبيض
تجاهر إسرائيل علانية وتسعى واقعياً للهيمنة التامة على منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وإعادة رسمها وفقاً للمعايير والمصالح الإسرائيلية العليا، وهذا يشمل بطبيعة الحال منطقة الخليج العربي بأكملها، كما أشار إلى ذلك رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في معرض تعليقه على العدوان الإسرائيلي الغاشم على الدوحة.
ويدخل في هذا السياق أيضاً حديث مجرم الحرب نتنياهو عن إسرائيل الكبرى التي تقع بين النيل والفرات، وتمتد لتتسع حتى جنوب تركيا، وشمال المملكة العربية السعودية.
هذا التوجه الإسرائيلي الخطير الذي بات واضحاً وجلياً للعيان، يستدعي من جميع الدول العربية إعادة النظر بشكل جدي في مواقفها من إسرائيل، وفي طبيعة العلاقات القائمة معها، فإسرائيل لم تعد ذلك الكيان الهش الذي يبحث عن السلام مقابل الأرض، أو السلام مقابل السلام.
إسرائيل اليوم هي كيان مارق لا يحده القانون الدولي ولا سيادة الدول، وهي تتطلع بكل ما أوتيت من قوة إلى التمدد والسيطرة والهيمنة حتى لو ارتكبت في سبيل ذلك كل الموبقات والمحرمات، كما تفعل حالياً في قطاع غزة المنكوب من تجويع وتطهير عرقي وإبادة جماعية منظمة وممنهجة.
وإذا كان مجرم الحرب نتنياهو قد تحدث عن إسرائيل الكبرى، فإن وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش قد صرح بأن حدود القدس تنتهي في دمشق، أما وزير الاتصالات في حكومته المدعو شلومو كرهي فقد قال بكل وقاحة إن نهر الأردن له ضفتان وهما لنا.
هذه التوجهات الاستعمارية اللاهوتية لإسرائيل تحتاج من الدول العربية أن تنتقل فوراً من مربع الإدانة والاستنكار إلى مربع الإجراءات الرادعة لإسرائيل، حتى لا يأتي يوم يقول فيه بعض العرب أكلت يوم أكل الثور الأبيض، لا سيما في ظل الانحياز الأميركي الفاضح لإسرائيل، وفشل الرهان عليها في كبح جماح اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة مجرم الحرب نتنياهو.
الواقع الخطير والمعقد الذي تعيشه المنطقة في الوقت الراهن، يتطلب تداعي الدول العربية بشكل عاجل وفوري، للنظر بجدية في كيفية وقف الغطرسة الإسرائيلية المتزايدة بأدوات وأوراق قوة حقيقية يملكها العرب، ومن أهمها:
قطع العلاقات السياسية بشكل كامل وفوري بطرد السفراء وإغلاق السفارات الإسرائيلية في جميع العواصم العربية. وقف التجارة البينية التي تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات مع تل أبيب بشكل كامل ونهائي. وقف كافة أشكال التعاون الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. إغلاق الأجواء العربية بشكل كامل أمام الطيران الإسرائيلي. تفعيل المقاطعة العربية الشاملة لإسرائيل في كافة المجالات ومع كافة الشركات التي تتعامل معها عسكرياً وتشاركها في اقتصاد الإبادة التي ترتكبها في قطاع غزة، تماماً كما فعلت النرويج بوقف كافة استثماراتها مع تسع وعشرين شركة عالمية تتعاون مع إسرائيل، وفي مقدمتها شركة "كاتربيلر" الأميركية المصنعة لجرافات (دي 9) العملاقة التي يستخدمها جيش الاحتلال في عملياته العسكرية في الضفة والقطاع. إغلاق كافة الموانئ البحرية والجوية والبرية العربية أمام إسرائيل، وأمام الشركات التي تتعامل معها، وهذا ما ذهبت إليه إسبانيا مؤخراً، في الشق العسكري، للضغط على إسرائيل حتى توقف انتهاكاتها وجرائمها المروعة في غزة. تحريك الدبلوماسية العربية بشكل فعال في مجلس الأمن الدولي، والمنظومة الدولية ككل، يساعدها في ذلك عشرات الدول الشرقية والغربية الغاضبة من إسرائيل، والرافضة لجرائمها وانتهاكاتها المتكررة، وذلك بهدف عزل إسرائيل قانونياً، وفرض عقوبات دولية مشددة عليها. ملاحقة إسرائيل أمام القضاء الدولي، وتفعيل الملاحقات الجنائية لقادة إسرائيل المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.
إسرائيل لم تتجرأ على ارتكاب الإبادة الجماعية المروعة في قطاع غزة، ولم تتجرأ على سعيها لضم الضفة الغربية والقدس المحتلة، وتهويد المسجد الأقصى المبارك، ولم تتجرأ على الاعتداء على لبنان، وسوريا، واليمن، ومؤخراً قطر، إلا بعد أن شعرت أنها "دولة" فوق القانون والمحاسبة، وذلك بصمت المجتمع الدولي المخزي، والحماية المطلقة التي توفرها لها الولايات المتحدة الأميركية.
الموقف العربي الجماعي الموحد قادر على كسر هذه المعادلة الظالمة، فإسرائيل لن تقوى على مواجهة العرب جميعاً، وهي المستنزفة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً طوال سنتين كاملتين من القتال الضاري في قطاع غزة.
ناهيك عن أن الحراك العربي يمكن أن يتطور ليصبح موقفاً إسلامياً دولياً كابحاً لجنوح إسرائيل، وملجماً لرعونتها وإرهابها المنفلت والمتزايد في المنطقة.
الولايات المتحدة الأميركية بدورها العتيدة ، ستضطر حتماً لأن تعيد حساباتها، وتعيد النظر ملياً في موقفها الداعم لجرائم إسرائيل في غزة والمنطقة العربية، إذا ما شعرت أنها يمكن أن تخسر مصالحها وحلفاءها في المنطقة، وهذا هو المعيار الوحيد الذي تفهمه واشنطن وإسرائيل على حد سواء.